عمّان- نبض الشارع العربي وتأثيره المتصاعد

المؤلف: محمد الأمين عساف11.08.2025
عمّان- نبض الشارع العربي وتأثيره المتصاعد

منذ الأسبوع المنصرم، تصاعدت الدعوات الجماهيرية لحصار مقر سفارة الكيان الإسرائيلي الغاصب في العاصمة الأردنية عمّان، وذلك في سياق التعبير عن التضامن العميق مع قطاع غزة المنكوب، والرد الحاسم على الفظائع والمجازر المروعة التي يقترفها الاحتلال البغيض في محيط مشفى الشفاء. استجابة لهذه الدعوات الملحة، انطلقت المسيرات الحاشدة يوم الأحد الموافق الرابع والعشرين من شهر مارس/آذار، لتتجمع بأعداد هائلة وغير مسبوقة في محيط السفارة، في مشهد لم تشهده الشوارع الأردنية الغاضبة منذ بدء العدوان الشرس على قطاع غزة في أعقاب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، باستثناء الأيام الأولى التي أعقبت ذلك العدوان.

وفي اليوم التالي مباشرة، امتدت نيران الاحتجاجات لتشمل العديد من العواصم العربية الأخرى، بما في ذلك بغداد الصامدة والرباط الشامخة، ولاحقًا القاهرة المحروسة، ثم أخذت رقعة المظاهرات تتسع وتنتشر في مدن عربية عديدة بعد فترة طويلة من الخفوت والركود. والجدير بالذكر في هذا المقام أن العديد من هذه المظاهرات – كتلك التي شهدتها القاهرة على سبيل المثال – كانت تتبادل الهتافات الحماسية التي تدعو إلى الاستجابة الفورية لنداءات الشارع الأردني الغاضب، مما يؤشر بشكل جلي على مدى تأثيره الفعال في تحريك الميادين في مختلف العواصم العربية. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك تفاعل واسع النطاق مع الشارع الأردني عبر الفضاء الافتراضي الرحب، ومنصات التواصل الاجتماعي المتنوعة، من قبل نشطاء عرب من مختلف المناطق، بما في ذلك قطاع غزة المحاصر.

"حراك شبابي"

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يشار فيها بوضوح إلى التأثير القوي للشارع الأردني على الشارع العربي بشكل عام، ففي الموجة الثانية من الربيع العربي المشتعل، والتي انطلقت في عام 2018، عزت العديد من التحليلات المحكمة قدح تلك الشرارة الأولى إلى الاحتجاجات العارمة التي اندلعت في الأردن، والإضراب العام الذي شهده في 30 مايو/أيار 2018، وذلك في الحراك الذي أطلقته النقابات المهنية الموقرة؛ اعتراضًا على قانون ضريبة الدخل آنذاك، إلا أنه سرعان ما توسع ليشمل مختلف المكونات المجتمعية، ومنح الحراك صبغة شبابية مميزة من جميع المحافظات الأردنية.

لم يكن للأحزاب السياسية دور محوري وقيادي في توجيه هذا الحراك المتنامي، وتدريجيًا اتسعت مطالبه لتتجاوز مطالب النقابات المهنية، وبدأ الشارع الأردني يرفع سقف مطالبه، مناديًا بما سمي بـ "تغيير النهج" في إدارة شؤون الدولة؛ وهو الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى إسقاط حكومة هاني الملقي، واستبدالها بحكومة جديدة وصفت بأنها أكثر قدرة على التواصل والتفاعل مع الشارع وهمومه.

وتوالت بعدها الاحتجاجات الشعبية في العديد من العواصم العربية الأخرى؛ في العراق الجريح، وفي السودان الشقيق، حيث أسقطت نظام البشير، وفي الجزائر الثائرة، حيث دفعت الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى التعهد علنًا بعدم الترشح لفترة رئاسية جديدة، ثم تفعيل المادة 102 من الدستور للإطاحة به من كرسي الرئاسة. وأخيرًا وليس آخرًا، إسقاط حكومة سعد الحريري في لبنان الصامد بعد سلسلة من الاحتجاجات المتواصلة.

تناولت العديد من التحليلات الأكاديمية الرصينة ما أطلق عليه اسم "عدوى الشارع"، ونسب إلى تونس الخضراء قدح شرارة الربيع العربي الملتهب، فيما نسبت تحليلات أخرى تحركات الشارع بدءًا من عام 2010 إلى تأهيل الشارع العربي للنشاط والتفاعل بعد حراكه على إثر الحرب الإسرائيلية الشرسة على غزة في عام 2008-2009.

والمشترك الجوهري هنا بين هذه التحليلات وغيرها من التحليلات العديدة، هو تأكيدها القاطع على فكرة مفادها أن الشارع في الدول العربية – وعلى الرغم من الخصوصيات التي تميز كل دولة عن الأخرى والظروف المختلفة التي تمر بها – يمتلك شبكة اتصالات معقدة ومتشابكة، كما أنه متأثر إلى حد بعيد ببعضه البعض. وذلك نتيجة لوجود أرضية اتصال وثيقة ومتينة بين مكونات الوطن العربي الكبير، وعلى رأس هذه المكونات أن المجتمعات العربية التي تمتد أراضيها الشاسعة على مساحة تقدر بـ 13 مليون كيلومتر مربع، تمتلك لغة عربية واحدة مشتركة، في حين أن الاتحاد الأوروبي الذي يمتد على ثلث هذه المساحة فحسب، يمتلك 24 لغة مختلفة.

ولا نشير إلى اللغة العربية هنا إلا كمثال حي على المشتركات الثقافية العديدة التي توثق اتصال المجتمعات العربية ببعضها البعض، على عكس المسافات الثقافية المتفاوتة في نموذج الاتحاد الأوروبي، على الرغم من وجودها في فضاء معولم متصل.

إن الخصائص الثقافية الفريدة والظروف السياسية المتشابكة التي تحيط بالوطن العربي تجعل من تأثر مجتمعاته ببعضها البعض أمرًا يسيرًا وسهلًا إلى حد بعيد، ولكن يبقى السؤال الملح الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا؛ هو لماذا قد تكون دولة أو مجتمع ما أكثر تأثيرًا من غيرها؟ وما هي المحددات التي تتحكم في هذا التأثير؟ وكيف يتم تحصيل هذا الموقع المؤثر على الساحة العربية؟ ولماذا تحضر عمّان اليوم كمحرك ذي تأثير كبير على الشارع العربي؟

"شوارع الغضب"

هنا لابد من الإشارة إلى نقطة بالغة الأهمية قبل التوسع في التحليل المعمق الذي يخصّ الأردن ومجتمعَه الأصيل، وهي أن هذا الدور المتقدم في التأثير على الساحة العربية لم يبدأ بالتطور والتبلور حسب اعتقادنا إلا في السنوات العشر الأخيرة، وبالتزامن مع تراجع ملحوظ في أدوار عواصم عربية أخرى كانت لها مكانة مركزية مرموقة في صناعة الرأي العام العربي وتوجيهه. وعلى رأس هذه العواصم دمشق الفيحاء، وبيروت الصامدة، والقاهرة المعزّة، وبغداد العريقة.

حيث بدأ تراجع دور العراق تدريجيًا منذ حرب الخليج الأولى، وتم طحن هذا الدور تقريبًا مع الاحتلال الغاشم في عام 2003، أما مصر الكنانة فمنذ عام 2013 بدأ دورها يتراجع بشكل ملحوظ؛ نتيجة القيود الصارمة التي فرضت على الفضاء العام، لدرجة يمكن معها القول إنه بدا مقتولًا في فترات زمنية محددة. أما سوريا الأسد ومع انحراف مسار ثورتها المباركة إلى حرب مدمرة، وتفكك الجغرافيا والمجتمع، وموجات اللجوء القاسية، فقد تعطل فيها أي نوع من أنواع الإنتاج والإبداع. كل هذه العوامل المتضافرة جعلت الساحة العربية مفتوحة على مصراعيها أمام دور متقدم وجديد لعمّان.

تناولت العديد من الدراسات المتخصصة تأثير مكان محدد في إشعال فتيل ثورة ما، إلا أن هذه الأبحاث كانت تدرس إلى حد بعيد دور مدينة معينة على سبيل المثال، أو ميدان معين في تحريك مواقع أخرى مشابهة، أو إكساب الزخم اللازم للتحرك الشعبي المتنامي، وعلى الرغم من ذلك؛ تبقى هذه الفرضيات والمحددات في دراسة أهمية الميادين ورمزياتها قابلة للاستخدام الأمثل في دراسة أهمية دولة أو عاصمة ما في التأثير على السياق العربي العام.

وما يمكنني أن أقوله بكل ثقة هنا؛ هو أنه وبالطريقة نفسها التي أثّر فيها ميدان التحرير الشهير في مصر، أو شارع الثورة – شارع الحبيب بورقيبة- في تونس الخضراء، على كل من مصر وتونس، فإنه يبدو أن لعمّان تأثيرًا مماثلًا وقويًا اليوم على الوطن العربي بأكمله.

يناقش الباحث المرموق المعروف بتناوله قضايا الربيع العربي آصف بيات في كتابه القيم "الحياة كسياسة" الأهمية البالغة لـ "شوارع الغضب"، ويضع لها خصائص اجتماعية ورمزية ترفع بشكل كبير من فرص تأثيرها الفعال على محيطها. فهو يصف هذه الميادين بأنها أماكن قادرة على جمع الحشود المتنوعة بسرعة فائقة، كما أنها تمتلك زخمًا ورمزية ثقافية عميقة، وهي مرنة بما يكفي لإتاحة الفرصة للمناورة، ويمثل الالتقاء فيها مكانًا مثاليًا يسهل انتشار الأخبار، وتناقل المشاعر والمواقف المختلفة.

وجوهر هذه الفكرة هو أن هذه الأماكن تمثل نقطة التقاء مكثف لتنوعات اجتماعية كبيرة، وتمتلك رمزية ثقافية عالية، ففي الوقت الذي يمثل فيه ميدان التحرير نقطة التقاء لتنوعات اجتماعية بتفاوتات طبقية واضحة، فإنه يمثل أيضًا مساحة ذات رمزية ثقافية تتمثل في تواجد المقاهي التي تمثل مساحة حوار ثقافي في محيطه، مثل مقهى ريش الشهير على سبيل المثال، وبوجود متاجر الكتب القيمة في شوارع مؤدية أو قريبة منه مثل شارعي طلعت حرب وقصر النيل؛ بحيث يكسب الميدان زخمًا أكبر بهذه الرمزية، إضافةً إلى موقعه الإستراتيجي المتميز الذي يمكّن من الالتقاء. وفي ذات الوقت يجعله موقعه محط أنظار الجميع ومصدرًا موثوقًا للأخبار والمشاهدات وانتشارها السريع عن طريق وسائل المواصلات المتنوعة. يضاف إلى ذلك طبيعة شوارع الميدان المرنة، والقدرة العالية على المناورة فيها والاحتشاد ثم الانسحاب بشكل سلس بما يقلل من خسائر التجمهر.

إن كل هذه العوامل التي وضعت في وصف مكانة ميدان ما في التأُثير على حيوية حراك اجتماعي واسع النطاق، أو ثورة شعبية عارمة، يمكن أن نقيس عليها؛ لفهم الدور المحوري الذي يلعبه مجتمع أو دولة ما في التأثير على الشارع العربي عمومًا، وعلى المزاج الشعبي العام المطالب للحكومات بالعدل والإنصاف، أو المتضامن مع قضاياه المشتركة العادلة، وهنا نسأل أنفسنا بتعمق: كيف وما هي خصائص الميدان الحيوي والمؤثر التي اكتسبها الأردن المميز؟

أولًا: الأردن كمحطة التقاء:

نرى بوضوح أن عمان تمتلك تلك الخصائص الجوهرية المتعلقة بوصفها محطة التقاء لتنوعات كثيفة، وهذا في شقين رئيسيين: الأول؛ المتعلق بذات المجتمع الأردني وتركيبته الداخلية الفريدة، فالأردن يحوي حالة من التنوع الكثيف والمتجانس إلى حد بعيد، والتي يمكن القول بكل ثقة؛ إنها فريدة من نوعها في محيطه.

ومن الأهمية بمكان الانتباه جيدًا إلى أنَّ هذا الخليط ليس خليطًا قديمًا كليًا، فعلى الرغم من عراقة مكونات عديدة فيه وتاريخيتها العريقة، فإن الصورة النهائية لهذا المجتمع شديد التنوعات، والتي نراها اليوم بأعيننا، هي حصيلة تفاعلات القرن الأخير على عكس التنوعات التي شكلتها قرون طويلة في دول محيطة.

يحوي المجتمع الأردني تنوعات دينية بين مسلمين ومسيحيين، إضافةً إلى إثنيات مختلفة تضم إلى جانب الأردنيين من أصول أردنية راسخة والأردنيين من أصل فلسطيني عريق، وبعض الأردنيين من أصول شامية وغيرها، مكونات أخرى مثل الأردنيين من الشركس والشيشان. لقد صنعت هذه المكونات المتنوعة مجتمعًا كثيف التنوع في مساحة جغرافية صغيرة نسبيًا، ومدة زمنية قصيرة، وهو ما طور لديه أدوات اتصال وحضور نوعية ومميزة؛ ليتمكن من المحافظة على انسجامه ووحدة نسيجه الاجتماعي وسلامة تفاعله.

عبور اجتماعي وجغرافي

إن هذه القدرات الاتصالية والحضورية العالية مكّنت المجتمع الأردني مبكرًا من العبور الجغرافي والاجتماعي السلس إلى العالم العربي افتراضيًا أو واقعيًا. ففي العديد من الدراسات والإحصاءات الموثوقة مثلًا، يظهر المحتوى الإعلامي الذي يخرج من الأردن كأحد أهم المحتويات وأكثرها حضورًا وتأثيرًا فعالًا على منصات التواصل الاجتماعي على مستوى الوطن العربي الواسع.

ثانيًا؛ يضاف إلى هذه العناصر الذاتية الداخلية عناصر أخرى متعلقة بسكّان الأردن، وليست فقط بمواطنيه الأصليين، ففي حين يصل عدد المواطنين الأردنيين إلى 8 ملايين نسمة، فإن سكان الأردن قد بلغوا في نهاية عام 2023 ما يقترب من 11.4 مليون فرد، أي أن المجتمع الأردني يستضيف بسخاء وترحاب ما يكافئ نصف عدد سكانه من المجتمعات العربية الأخرى الشقيقة، حيث إن ثلث سكّان الأردن ليسوا مواطنين. تضم هذه النسبة الكبيرة التي تزيد على ثلاثة ملايين نسمة مكونات فلسطينية وسورية وعراقية ويمنية وليبية ومصرية مستقرة منذ سنوات طويلة في داخل المجتمع الأردني بصيغة لجوء إنساني، أو كعمالة وافدة كريمة، وخصوصًا المصريين منهم.

إن كل هذا التنوع الثري بين سكان الأردن يبقي المجتمعات التي تمتلك جاليات ومقيمين في داخله على اتصال دائم ومستمر به. ومن الجدير بالذكر هنا، أن طبيعة تواجد هذه المكونات المتنوعة في الأردن لا تحمل صيغة العاملين المقيمين في الخليج العربي، فطبيعة الإقامة هناك مختلفة تمامًا إلى حد بعيد. إضافةً إلى أن اللاجئ تحديدًا يكوّن فضاءً اجتماعيًا مختلفًا عن ذلك الذي يبنيه المقيم، خصوصًا عندما يعيش خارج المخيمات المخصصة ويتصل بالمجتمع المستضيف ويتفاعل معه. عدا عن خصوصيات مجتمع الخليج العربي وطبيعة علاقاته بالعاملين فيه، والتي قد لا توفر فرصًا كبيرة لاندماج المكونات الأخرى معه، ما يبقي حالة التمايز واضحة للعيان بشكل جلي، وهو ما لا يظهر بهذه الصرامة في المجتمع الأردني المضياف؛ لاعتبارات متعلقة بالمساحة وطبيعة العمل وظروف أخرى عديدة.

يضاف إلى هذا أن الأردن من الدول العربية التي تمتلك ثلاثة قطاعات اقتصادية مهمة تستقطب الوافدين وتبقيهم على اتصال كثيف بمحيطه العربي، الأول؛ هو قطاع الصحة المتقدم، والذي يستقبل مئات الآلاف من المستفيدين سنويًا، والذين هم بغالبيتهم الساحقة من العرب أو المقيمين في الإقليم على الأقل، حيث إن الأردن استقبل في عام 2023 وحده قرابة 200 ألف مريض.

وأما القطاع الثاني؛ فهو قطاع التعليم المتميز، ففي ظل التوسع الكبير الذي يشهده القطاع التعليمي بشقيه: الخاص والعام، فإن الأردن استقبل قرابة 46 ألف طالب دولي في العام الدراسي 2022/2023.

وأخيرًا؛ فإن الأردن وفي الأعوام الأخيرة وفي ظل الاضطرابات المتزايدة التي يشهدها الإقليم من حوله، قد تحول إلى وجهة سياحية مركزية في الإقليم، وحتى على مستوى العالم أجمع. حيث نمت واردات قطاع السياحة المزدهر في عام 2023 بنسبة كبيرة بلغت 27%، مما جعل الأردن يتبوأ المركز التاسع المرموق على مستوى العالم من حيث النمو المتسارع للقطاع السياحي.

محطة التقاء واتصال

إن كل هذه العناصر القيمة التي ذكرناها بتفصيل وافٍ – ابتداءً من تنوع المجتمع الأردني ذاته وتطويره أدواته الاتصالية الواقعية والافتراضية المبتكرة، وتواجد أعداد كبيرة من المقيمين واللاجئين العرب الذين يبقون المجتمع الأردني على اتصال وثيق بمحيطه العربي، مضافًا إلى ذلك القطاعات الاقتصادية الهامة التي تستقبل أعدادًا كبيرة من الأشقاء العرب – تجعل من الأردن محطة التقاء واتصال عربي بالغة الأهمية، يدعّم هذا الموقع المتميز الموقع الجغرافي الوسيط الذي يحتله الأردن بين عدد كبير من الدول العربية الشقيقة.

ثانيًا: الأردن والرمزيات:

إن من أهم النقاط التي تم تناولها سابقًا في خصائص الميادين الحيوية والمؤثرة، امتلاكَ تلك الميادين رمزية ثقافية وسياسية عميقة. وهو الأمر الذي يمكن معه القول بثقة؛ إن عمّان العاصمة بدأت بتحصيله وتنميته باجتهاد في العقد الأخير. ففي ظل اختفاء الدور المحوري لسوريا ولسينماها التي كانت تنتجها، وفي ظل الظروف السياسية الصعبة والتضييقات المتزايدة، وتحديد سقف الحريات في مصر مما أثر سلبًا على إنتاجها المعرفي الكبير في فترات سابقة، إضافةً إلى تراجع دور لبنان الشقيق، خصوصًا فيما يتعلق بالإعلام المطبوع ودور النشر الثقافية في ظل الأزمات المتلاحقة التي تعرض لها، فإن عمّان كانت تنمي في هذا الوقت سوق كتب مميزًا ومزدهرًا، وتوسعت دور النشر فيها بصورة ملحوظة، كما توسع قطاع الإعلام والإعلام البديل فيها بشكل لافت، ولعب دورًا مهمًا في استضافة المؤتمرات والندوات المتنوعة.

إن ما يتعلق بسوق الكتب والنشر والإعلام لا يمثل علامة فارقة جدًا في رفع مكانة الأردن على الصعيد الثقافي، على الرغم من تقليص المسافة بين عمّان والقاهرة وبيروت عما كانت عليه سابقًا في هذا السياق.

ويبقى الأثر الأهم على الإطلاق، وهو بنوع جديد من الرمزيات، ففي حين كانت الرمزيات الثقافية مرتبطة في مرحلة ما بالكتب القيمة والسينما الهادفة والإعلام الرسمي؛ فإن الرمزيات بعد الربيع العربي أصبحت أكثر ارتباطًا بمواقع التواصل الاجتماعي التي يحقق فيها الأردنيون – على ما يبدو – نجاحًا كبيرًا وحضورًا كثيفًا وملحوظًا. وبالمؤتمرات الشبابية الهادفة التي تجمع الشباب الواعد من مختلف مناطق الوطن العربي الكبير. وهو ما حصلته عمّان بتحولها التدريجي إلى منصة استقبال لأعمال المؤتمرات والندوات الثقافية والسياسية.

فمع النمو المتزايد لقطاع المنظمات غير الحكومية النشطة في الأردن، أصبحت العاصمة الأردنية – ودون مبالغة – "مدينة مؤتمرات" بامتياز. وقد يتساءل كثر عن ضخَامة حجم قطاع الفنادق الفخمة الذي تزدحم به عمان على الرغم من صغر حجم السياحة التقليدية فيها، والسر هنا يكمن في أن هذه الفنادق تعتمد بشكل كبير على أعمال المؤتمرات والأنشطة المحلية والدولية التي تستضيفها عمّان العاصمة. مما حول المدينة إلى فضاء نقاش عام واسع ومفتوح، منح المدينة بالتالي رمزية ثقافية مهمة. وهو بالمناسبة ما كانت تزاحمها فيه تونس الخضراء قبل أن يتراجع هذا الدور مع قدوم قيس سعيد إلى السلطة.

يضاف إلى النقاط السابقة الهامة، الموقع الاستراتيجي المتميز للأردن بجوار فلسطين المحتلة. حيث يكتسب الأردن نتيجة ارتباطه الوثيق بفلسطين تاريخيًا وجغرافيًا واجتماعيًا مكانة خاصة ومميزة تجعله في كثير من الأحيان محط أنظار العالم أجمع، ويحفز هذا أيضًا على متابعة الأحداث الجارية فيه، خصوصًا تلك الأحداث التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقضية الفلسطينية العادلة. لدرجة يمكن القول معها أحيانًا كثيرة؛ إن عمان العاصمة تصبح فجأة تحت المجهر العربي. كما منحها هذا الارتباط رمزية عالية في أدبيات متنوعة قومية وإسلامية، وحتى على الصعيد العاطفي البسيط.

وأخيرًا؛ يمكن القول؛ إن الأردن اكتسب من بعض النقاط التي أوردناها سابقًا في المحور السابق، رمزية أخرى مرموقة على الصعيد الثقافي نتيجة وجود قطاعَي الصحة والتعليم المتقدمين والمتطورين باستمرار. حيث خرّج الأردن أعدادًا كبيرة من المعلمين الأفاضل والأطباء المهرة والمهندسين القديرين الذين عملوا بجد وإخلاص في مناطق عديدة من الوطن العربي الكبير أهمها منطقة الخليج العربي، ولم يشتبكوا بالمجتمع الخليجي فحسب، بل بالجاليات المتنوعة للمجتمعات الأخرى هناك. وغالبًا ما كان الأردني والفلسطيني يمثلان صورة يمكن القول؛ إنها نخبوية إلى حد ما نتيجة الأعمال الجليلة التي قاموا بها في مراحل مبكرة في منطقة الخليج، مكرسين بذلك صورة ثقافية واجتماعية خاصة ومميزة، منحتهم مكانة عظيمة، بغض النظر عن حجمها الدقيق، إلا أنها عززت نوعًا ما مستوى التأثير والحضور المميز لهذا المجتمع.

ثالثًا: الأردن والمرونة ومساحة المناورة:

إن من أهم خصائص الميادين الحيوية والمؤثرة، أن تكون ميادين ذات مساحات مرنة وواسعة، توفر فرصًا حقيقية للمناورة السريعة، حيث تحتشد الجماهير النشطة وتستطيع أن تتفرق بسهولة ويسر في حالة التهديد المحيق، ثم تتمكن بعد ذلك من العودة إلى تجميع صفوفها وتنظيم نفسها بكل فاعلية. إن هذه الخاصية الهامة تتيح للميادين أن تبقى مشتغلة وفاعلة دون أن يتحطم حراكها المستمر أو يتوقف نشاطها المتواصل، وتبقى بالتالي في حالة كرّ وفرّ دائم، ما يتيح استدامة صورتها كفاعل رئيسي ومؤثر. وفي إسقاط لهذه الشروط المكانية والمتعلقة بالمساحة على أرض الواقع، يمكن أن نفهم بسهولة الدور المحوري لطبيعة التفاعل السياسي إجمالًا في الساحة الأردنية النشطة، وليس فقط حراك الشارع المتنامي في تعزيز تأثير الأردن على محيطه العربي.

ترسيخ التوازنات

إن طبيعة البناء السياسي الأردني الفريد، تاريخيًا، لم تحمل صفات الأنظمة السياسية الشمولية التقليدية، بل كانت ممارسات السلطات الرسمية المختصة دائمًا ما تترك مجالًا مضبوطًا للمناورة والتفاعل مع القوى السياسية الفاعلة. وينبع ذلك أساسًا من تعاقد اجتماعي معقد ومركب بين الدولة ومجتمعها المتنوع. فهي تمتلك أولًا منذ وقت مبكر تيارات سياسية متباينة ومساحة تمثيل سياسي برلماني محترم، وتشهد منافسات حادة ومستمرة بين الحكومات المتعاقبة وهذه التيارات السياسية، إضافةً إلى منافسات أخرى بين هذه التيارات فيما بينها. وثانيًا؛ أن الحالة السياسية في الأردن – وعلى الرغم من كونها مملكة راسخة يحضر فيها وزن تنفيذي كبير للمؤسسة الملكية الهاشمية، وتظهر قوتها بوضوح في معالم الحكم المستقر – فإنها مع ذلك لا تقتصر فقط عليها كفاعل وحيد، بل تلعب الملكية دورًا محوريًا يقوم بالأساس على ترسيخ التوازنات الدقيقة بين كل التنوعات السياسية والاجتماعية التي أشرنا إليها سابقًا، مع المحافظة الدائمة على موقع قوة متقدم ومؤثر.

إن هذه الخصائص المتميزة كانت تدفع – باستمرار – نحو حالات من التوسع والانحسار المدروس للفضاء العام والمجال السياسي في البلاد وفقًا للظروف الإقليمية المتغيرة التي تمر بها، إضافةً إلى توازنات القوة المختلفة في داخلها. وهي صفة مميزة للشارع الأردني أثبتت جدارتها على ما يبدو أنه قد تم تناولها بجدية كبيرة في بعض الدراسات والأبحاث القيمة، مثلما يتحدث به لاري دايموند في كتابه "روح الديمقراطية"، عن أن كلا من الأردن ومصر في فترة حكم مبارك قد اتبعتا نهجًا متشابهًا في توسيع وتضييق الفضاء العام ظرفيًا، بما يضمن المصالح العليا للنظام السياسي القائم، ويمنع الأوضاع من التدهور والانزلاق إلى صدامات حادّة ونهائية.

لقد جعلت هذه الصورة المميزة الفضاء السياسي الأردني يبدو أكثر مرونة وانفتاحًا مقارنةً بالمحيط العربي المضطرب. فلا تظهر في الأردن حالات إعدام لبنى سياسية متكاملة، أو حظرها التام بالشكل الذي عرفته العديد من الدول العربية الأخرى. في حين أنه إذا كان هناك تقدير بخطورة جسم سياسي ما، فإن مؤسسات الدولة المعنية لا تدخل في صدام مباشر معه، بل تتبع إستراتيجيات احتواء فعالة، أو تفكيك تدريجي في حال فشلت إستراتيجيات الاحتواء المتاحة.

كما أن الأردن لم يعهد حالات من الصدام الدموي المباشر في ميادينه وشوارعه ولا في محاكمه العادلة، ما جعل فرص التحرك والذهاب والإياب باستمرار فيه ممكنة وواقعية، وذات كُلَف غير عالية نسبيًا. لقد أبقت هذه الصورة الإيجابية الأردن ساحة تفاعل مستمر لم يُعدم فيها الفضاء العام كليًا، وإن تراجعت فاعليته تدريجيًا بجعل الأحزاب السياسية ضعيفة الحضور والتأثير في المعادلة السياسية العامة على سبيل المثال، أو بسن قوانين انتخاب متشددة حدّت من التمثيل السياسي العادل على حساب تمثيل البنى الاجتماعية المتنوعة، وهو ما جعل من دور مجالس النواب دورًا خدميًا باهتًا في فترات متعددة.

لقد ساعدت هذه الاستمرارية الدوؤب بصرف النظر عن تفاوت فاعليتها عبر المراحل المختلفة على تناقل موروث العمل السياسي الثمين بين الأجيال المختلفة، حيث لم ينقطع اتصالها كليًا رغم التفاوتات والاختلافات الجوهرية بينها، وطورت خبرات عديدة، منها ما بنى على ما سبق من خبرات بالتصالح معه، أو نقده ببصيرة والعمل الجاد على تجديده؛ إلا أنه وفي كلتا الحالتين يبقى الاتصال الحيوي بين خبرات الأجيال المختلفة بالغ الأهمية، وهو ما وفره عدم وجود قطع كلي في العمل السياسي في البلاد. كما طوِّرت نتيجة لهذه الاستمرارية مهارات خاصة بالشارع الواعي، وأدوات مميزة للتعبير الحر، وحافظت على حضور دائم للنشاط الأردني في الساحة العربية، خصوصًا مع وجود حالة واضحة من المهارة العالية والحضور المكثف في مواقع التواصل الاجتماعي المتنوعة.

دور محفز ومشجع

يمكن القول بثقة واعتمادًا على المعطيات المذكورة؛ إن هذه العوامل السابقة مجتمعة قد منحت الأردن دورًا مهمًا في التأثير الإيجابي على الساحة العربية ككل، وجعلت من قدرته الفائقة على استنهاض المجتمعات الأخرى الشقيقة ودفعها بحماس نحو التحرك الفعال أكبر بكثير منها عند غيره من الدول. ومن الجدير بالذكر هنا أن ننوّه باهتمام إلى أننا لا نعتقد البتة بأن السلطات المختصة ومؤسسات الدولة الأردنية الرسمية غافلة عن هذه الخصائص المميزة التي يمتلكها شارعها الواعي، بل إنها وفي كثير من الأحيان قد استثمرتها بذكاء واستفادت منها بشكل كبير في مواجهة معادلات إقليمية معقدة لا تحتمل التسويف وضغوطات اقتصادية متزايدة استدعت إيصال رسائل معينة وواضحة إلى الإقليم والعالم الخارجي، وهو ما نعتقد جازمين أنه قد تم بشكل ملحوظ مع حراك عام 2018 على سبيل المثال، والذي تزامن مع التحديات الجدية لما سمي بصفقة القرن المشؤومة وأزمة اقتصادية كبيرة ألمّت بالأردن. ما دفع الأردن إلى التعامل بجدية مع الشارع بصورة معينة، سمحت لتأثيره الفاعل بالعبور نحو الخارج، في محاولة جادة لإيصال رسائل واضحة لجيرانه وحلفائه الدوليين ليتحركوا بدورهم بفعالية نحو إيقاف المخاطر المحدقة التي كان يراها النظام السياسي الحاكم بوضوح، أو المساهمة الجادة في تجاوز أزمته الاقتصادية الخانقة.

إن من أهم ما يعتمد عليه الشارع في تحفيز تحركه وإنعاشه هو الأمل المتجدد، الذي يلعب دورًا أساسيًا في إقناع ودفع القواعد الشعبية نحو التحرك الجاد والفعال. لقد مرت المنطقة العربية بفترة عصيبة منذ انعكاس مسار الربيع العربي وتراجعه وتحوله المؤسف إلى مجموعة من الانقلابات العسكرية والنزاعات الأهلية المدمرة، تكرست فيها حالة يأس وخيبة أمل ثقيلة الوطأة ثبطت من عزيمة المجتمعات العربية الأصيلة. وأصبحت نماذج الانهيار المخيف للثورات العربية وتحولها اللاحق إلى فوضى عارمة وتفتيت للمجتمعات صورة مأساوية حاضرة بقوة في الخيال الشعبي العام. وقد عملت العديد من القوى السياسية المستفيدة بشكل مباشر من إخماد موجة ثورات الربيع العربي على تكريس هذه الصورة القاتمة من الفشل الذريع، والمآلات غير المحمودة لتحرك الشارع الفاعل، لنفي جدوى هذا التحرك وتعطيله بشكل كامل. في حين أن لحظة واحدة من إعادة إثبات الجدوى الحقيقية التي قدمها الشارع الأردني الواعي في عام 2018 بتمكنه من إسقاط حكومة كاملة دون دفع فواتير باهظة من تفتت للمجتمع الواحد وتدمير للدولة المستقرة؛ كان لها – على ما يبدو جليًا – دور هام في التأسيس لموجة ثانية قوية من الثورات الشعبية في دول عربية عديدة.

ولابد أن نؤكد في هذا السياق أننا لا نقول البتة؛ إن تحرك الشارع الأردني كان السبب المباشر في تحريك تلك الشوارع العربية الأخرى، بقدر ما أنه لعب بالتوازي والتكامل مع ظروفها الخاصة واحتقان واقعها المرير والأسباب الذاتية التي تمتلكها للثورة؛ دور المحفز والمشجع الفاعل. وهي الثنائية الهامة التي يشير إليها عالم الاجتماع الإسباني الشهير مانويل كاستلز في كتابه القيم "شبكات الغضب والأمل"، تمامًا كما أشارت إليه العديد من الأعمال الروائية والسينمائية الهامة الأخرى، التي شرحت بالتفصيل الدقيق تأثيرات الخوف والأمل على تنشيط التحرك الشعبي أو تحفيزه المتواصل وفكرة العدوى الإيجابية وإيجاد القدوة الحسنة. ونعتقد جازمين أن التحركات الفعالة على الساحة الأردنية، وخصوصًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية العادلة قد بثثت شيئًا هامًا من الأمل المتجدد لدى المجتمعات العربية الأخرى، وصنعت حالة جديدة من التحفيز الهام لما يرتبط بالأردن الوثيق بالقضية الفلسطينية من اعتبارات سياسية وجغرافية واجتماعية عميقة تبقيه دائمًا محط أنظار العالم.

مسؤولية مشتركة

ونخلص في نهاية المطاف إلى أن لكل مجتمع عربي خصائص مميزة وظروفًا خاصة به تحدد طريقة تفاعله الدقيقة مع واقعه الجاري وميله نحو استخدام أدوات الضغط الشعبي أو غيرها من الأدوات الأخرى، وتدفعه دفعًا نحو التحرك الفعال في أنماط معينة؛ استجابةً لمطالبه العادلة وتفاعلاته الداخلية. إلا أنه ومع ذلك يبدو جليًا أن للمجتمعات العربية قاعدة مشتركة واسعة الأطراف تجعل من تفاعلها المشترك المتواصل وتأثرها الإيجابي ببعضها بعضًا مشهدًا معتادًا وواضحًا للعيان، ويبدو أيضًا أن لمجتمعات عربية معينة تأثيرًا أكبر وأعمق من غيرها على المجمل العربي؛ نتيجة خصائص معينة تمتلكها عن جدارة واستحقاق، إما نتيجة سياقها الداخلي المتفرد أو نتيجة لظروف إقليمية محددة ترفع من حضورها الطاغي وتأثيرها الملحوظ. ولكن هذا التأثير الكبير لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يكون مولدًا لتحرك المجتمعات العربية الأخرى كلها، ولا أن يصنع حراكها الفعال، بقدر ما أنه يلعب حقيقةً دورًا محفزًا ورئيسيًا في حال توافرت الظروف المناسبة والملائمة والحاجة الفعلية للتحركات البناءة عند هذه المجتمعات الشقيقة. وهو الدور الهام الذي يبدو أنه ونتيجة تقاطع مجموعة من الظروف الموضوعية – بات اليوم مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالمجتمع الأردني النشط وشارعه الواعي وتحركاته المستنيرة.

وختامًا يجدر بنا أن نشير بكل وضوح إلى أن هذه الخصائص المتميزة التي تمتلكها شوارع عربية معينة كما هو الحال في الأردن اليوم، والتي تمنح المجتمعات والدول دورًا فاعلًا وأوراق قوة مؤثرة على الساحة العربية الرحبة – هي في ذات الوقت تضع هذه المجتمعات والدول في موقع مسؤولية تاريخية بالصورة التي تبنيها عن حراكها البناء ومدى نجاحه وتوازنه الإيجابي، والتي ستنتقل بالضرورة إلى المجتمعات الأخرى المحيطة وتؤثر

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة